جان أونُورِيه فراجونار

(1732 - 1806)


غادر أونوريه موطنه الريفي وهو في الثامنة عشرة من عمره ليتتلمذ على الفنان شاردان ثم بوشيه إلى أن ظفر بجائزة روما عام 1752 (لوحة 88)، غير أنه لم يغادر فرنسا إلى روما إلا عام 1756 حيث قضى خمس سنوات في التحصيل والتشرّد والانغمار في الحياة البوهيمية، كما درس أعمال تنتوريتو وتييبولو وغيرهما. وبعد عودته إلى باريس تعرّف على مواطن الجمال في أعمال كبار المصورين الفلمنكـيين والهولنديين، واستقى من روبنز ورمبرانت الأسلوب الجذاب المبهر الذي جعل منه المصوّر الغنائي الأول خلال القرن الثامن عشر دون منازع. وعلى غرار الأخوين جواردي استخدم فراجونار الضوء والمناخ المحيط بأشكاله المختلفة من خلال ضبابية شفّافة يخال المُشَاهِـد معها أنه يتطلّـع إلى مشهد من وحي الخيال وإن نـَبـَض بحيويـة غامضة. وكما زوّد فيرونيزي الفنان تييبولو بالعناصر التي يعبّـر بها عن خياله، كذلك حفز تييبولو فراجونار إلى استخدام نزوات الخيال في مشاهده على نحو ما سنرى في لوحة "مأدبة كليوباتره لأنطونيو" للفنان تييبولو التي تصوّر المشهد وكأنه حلم من الأحلام. وفراجونار شأنه شأن تييبولو مصوّر رومانسي من مصوري الروكوكو ألهمته مظاهر الطبيعة الأخّاذة "الجديرة بالتصوير" أكثر مما ألهمه البشر الذين صوّرهم في مناظره الطبيعية أقزاماً إلى جوار الأشجار السامقة المنبثقة مثل النافورات، على نحو ما نرى في لوحة "حدائق فيلا ديست" (لوحة 89). وإذا كان لم يتبع أسلوب فرنشسكو جواردي في تصوير الشخوص ضئيلة، فقد حاكى أسلوب شقيقة أنطونيو جواردي حيث تتراءى الشخوص مجرد خطوط منغّـمة متّـسقة متأوّدة ترفّ بالحيوية لكن دون وجوه تميّـزها بل هي تبدو مثل بقع راقصة تتماوج داخل التكوين. وفي كلتا الحالتين تبدو الشخوص وكأنها الدُمى، فلا تكاد عناوين أغلب لوحاته تعين المشاهد على تبيّـن الحواف المحدّدة للأشكال حين تحاول العين متابعة شخوص اللوحة، على النهج الذي نلمسه في لوحات مثل "درس الموسيقى" (لوحة 90) و"المربية" (لوحة 91) و"فتاة تنقش الحروف الأولى من اسمها على جذع شجرة" (لوحة 93)، و"طفلة تداعب جروها في فراشها" (لوحة 94) ورسم "الباشا" (لوحة 95). وتفسير ذلك أن فراجونار لم يتحمّس كثيراً للموضوعات التي تناولها، فهو في دخيلة نفسه لم يتحمّس إلا لموضوع واحد متكرر منطوٍ على شحنات حسـية ساخنة. فعلى الرغم من أنه كان يحدّد كل موضوع من موضوعاته بعناصر دالة مناسبة يرسمها برصانة واعتدال إلا أنه كان في كل الأحوال واقعاً تحت تأثير هذه الشحنة الحسية، بل إن مناظره الطبيعية نفسها تبدو بدورها كأنها أقواس جنسية تتزاوج فيها السحب مع الأشجار وتغدو الزخارف النباتية بلا وظيفة تؤديها كأنها مخرّمات الدنتللا لا هدف لها سوى التجميل والتنميق فحسب مثلما تتدفّـق مياه النافورات بلا ضابط. وإذا تناول الموضوعات التاريخية - وهو أمر نادر الحدوث - جاءت كذلك مفعمة بالحب، فلوحة "كوريسّوس يضحّي بحياته لإنقاذ كاليرهُوِيه(23) علق الكاهن كوريسوس أحد كهنة الإله باكخوس في بويوتيا بالحورية كاليرهويه التي كانت تصده على الدوام، فشكاها إلى باكخوس الذي أصاب البلاد بوباء الطاعون. وإذا بالهاتف الإلهي يوحي إلى أهل البلاد بأن يقدموا كاليرهويه قرباناً على مذبح الإله حتى يرضى عنهم. وسيقت الفتاة إلى المذبح غير أن الكاهن كوريسوس طعن نفسه بدلا منها. وعندما أدركت كاليرهويه مدى ما اقترفته في حق عاشقها انتحرت عند حافة نافورة حملت اسمها فيما بعد. " التي عُـرضت بصالون باريس عام 1765 (لوحة 96) إن هي إلا محاولة من جانبه للجمع بين خصاله الذاتية والقوالب الأكاديمية، فجاءت معبّرة عن حب لم يؤت ثماره وعن تضحية سامية كانت تعدّ وقتذاك عاطفة عقيمة. وقد بذل فراجونار جهداً جباراً كي يُجيّـش قوى الإثارة في تكوينه الفني، لاجئاً إلى رسم غلالات من السّحب الداكنة والأتباع والشخوص المجنّـحة المحلّـقة ليملأ الفراغ الفسيح الشاغر بين العمودين الذي لا يحتل الكاهن والحورية إلا جانباً ضئيلاً منه.


88

89

91

92

94

96


كان صرح طراز أوج الروكوكو في تلك الآونة في سبيله إلى التداعي، وكان جمهور المتذوّقين يتوقّـع أن يحول مصور لوحة كوريسّوس دون أفول هذا الطراز، حتى لقد عقّـب ديدرو (لوحة 97) على هذه اللوحة بأنها: "قد شدّت الانتباه إليها لحاجة الجمهور بفرنسا إلى خَلفٍ لأباطرة طراز الروكوكو، لا لما تنطوي عليه من مزايا خاصة بعد أن تدنّـت موهبة بوشيه وبعد وفاة الأخوين جواردي وبعد هجرة تييبولو إلى مدريد". وبطبيعة الحال لم يكن فراجونار مهيّـأً لأداء الدور نفسه الذي لعبه مَـنْ سبقوه، فإذا هو ينفرد باتجاه خاص به دون أن يحفل بعالم الأساطير الخالد أو بالكلاسيكية المحدثة، الأمر الذي أسفر عن إهمال شأنه وعن تجاهل معارض صالون باريس له. ولقد كانت حياته مثل فنه طليقة متحرّرة خالية من القيود التي فرضها رعاة الفن ولم يُعـِـرها اهتماماً، إذ كانت معاملاته تتم مباشرة مع تجار التحف الفنية دون وسيط، كما كان معنيّـاً بتصوير حياة النساء الخاصة بعد أن لم تـَـعُـد له رغبة أو مصلحة في تناول الموضوعات التاريخية، مثال لوحة ماري مادلين جيمار (لوحة 98). و"الحسناء مستغرقة في تحصيل المعرفة" (لوحة 99)، و"فتاة تطالع كتابا" (لوحة100). و"الاستغماية" (لوحة 101). أما موضوعاته الأسطورية فجاءت فظّـة عن غير دراية أو عن دراية قاصرة، استقاها من خلال غشيانه مسارح الأوبرا كوميك.


97

98

99


لقد انحاز فراجونار إلى الرشاقة المعهودة خلال القرن الثامن عشر الفرنسي، فإن لوحاته وإن تكن بالغة البساطة بلمسات فرشاته السريعة بل الخاطفة، إلا أنها بالغة الغنى والثراء الابتكار اللافت للأنظار، على النمط الذي تحمله الصبيّـة المشاكسة المعابثة التي تداعب بيمناها تمثالاً صغيراً لـ"مانداران" [موظف صيني ذو حيثية] ينتصب فوق مائدة صغيرة مستديرة بينما تُـمسك بيسراها ودون اكتراث برؤوس خيوط الدُّمية المتحركة التي دسّتها تحت المقعد الجالسة عليه (لوحة 102). وهو مشهد نلمس فيه الاقتراب من بدعة محاكاة التصاوير الصينية [شِـينوازري] الشائعة وقتذاك، كما تذكّـرنا بلُـعب الأطفال التي ولع الفنان شاردان بتصويرها، لكنها مصوَّرة هنا في بيئة مختلفة كل الاختلاف، حيث ألوان لمسات فرشاته هي التي تُضفي الرشاقة والحيوية على الرسم في تناغم مذهل مثير من الألوان الوردية والحمراء والخضراء. وهكذا لا يباعد هذا المشهد بيننا وبين عالم الطفولة، برغم أنه يقود الصبيّة الرشيقة ذات القوام الممشوق إلى عالم الأنوثة الشـَّـهيّ الذي هو العلامة التي ميّـزت فراجونار عن سواه، والتي حـَـقـَـنـَـتْ القرن الثامن عشر بروح اطـّـراح تراكمات صرامة العادات والتقاليد وصولاً إلى اللـُّطف والطـّـرافة الباسمة. وكان فراجونار من نواح عدة أقرب إلى فاتو منه إلى بوشيه، ومن هنا كانت استجابته الحرّة المتحرّرة إلى سلوكيّـات مجتمعه، ومزجه الحاذق بين طقوس الحياة اليومية المعاصرة وفن الزخرفة، وتناوله لموضوعات حسيّة مثيرة وإن افتقدت العمق الوجداني الذي نستشعره في فن فاتو، لكنها أشدّ صراحة في "روبنزيّتها" من فاتو، على الوجه الذي نشاهده في لوحة "فتاة تنزع قميص نومها" (لوحة 103)، و"المزلاج" (لوحة 104)، و"الأرجوحة" (لوحة 105). لكن أيّاً من هذه اللوحات لا يكشف النقاب عن عبقرية فراجونار الحقيقية بقدر ما تكشف عنها لوحة "مهرجان العيد بسان كلو" الرائعة (لوحة 106) التي قدّمها بعد لوحة كوريسّوس بعشر سنوات، حيث تطغى الطبيعة على الشخوص، مثلما تطغى المساحات الفسيحة من السماء الملبّـدة بالغيوم على كتل الأشجار الكثيفة. وقد نلمح شخوصاً مبعثرة متسكّـعة تومئ إلى ما تشاهده في مسرح العرائس، ومع هذا كله تظل الطبيعة مهيمنة على لوحة، وقد اتخذت أشجارها الخـُـضر والصُّـفر نسباً عملاقة حتى انكمش الأفراد أمامها إلى مجرّد دُمىً، فإذا ما بدأه الفنان باعتباره مشهداً لحدث معاصر هام يغدو قصيدة جامحة تدور حول سيطرة الطبيعة وضآلة الإنسان، وهو النهج الذي ما لبث أن تبوّأ مكانته خلال الحركة الرومانسية.



104

105

106

وموضوع "المستحمّات" الذي عادة ما يضمّ رهطاً من العاريات ضمن منظر خلوي، والذي انتظم من قبل صور الحوريات أثناء استحمامهن، وديانا في حمامها، وكذا الصور التـَـوْراتية مثل "سوسنة في الحمام" و"بتشابع في الحمام" إلى غير ذلك، هو موضوع قديم مطروق في فن التصوير تناوله فراجونار في لوحة المستحمات (لوحة 107) بقريحة وقـّـادة وحماسة مشبوبة وحيوية مذهلة. وإذا كان مآل هذه اللوحة إلى الأثرياء من هواة هذا اللون الزخرفي الحسـّـي الساعين وراء مباهج الحياة والمرح الصاخب، فلقد عـُـدّت هـذه اللوحة رمزاً للذوق الفني الفرنسي آنذاك. ونلمس فيها الإيقاع السريع للمسات الفرشاة المعـبـّـر عن النشوة وحُـمَّى الإلهام المتدفّـق وتأجّـج الوجْـدان أمام توهّـج الضياء، فإذا أجساد الفتيات وجدائل شعورهن تـَـتحوّل إلى ما يشبه أطيافاً من الأصداف، وتغدو الشجيرات والأغصان كتلاً رفـّـافة وكأنها السـّـحب في خفّـتها، ولم تعد المياه جارية منسابة بل راغية مُـزبدة. ولم تعد اللوحة تنطوي على ماديات، فكل ما فيها من طبيعة يصّاعد مهوّماً كالبخار، كما لم تعد الصّبايا يخضعن لقانون الجاذبية الأرضية مشكـّـلات طاقة مفعمة بالحيوية والمرح الوثـّـاب. لقد تجاوز فراجونار في هذه اللوحة المثل الأعلى للرقّة الحسيّة المألوفة في عصره متدثّـراً بغنائية وِحْـدة الوجود التي اعتنقها كبار الفنانين أمثال روبنز ورينوار.

وكان من سوء حظ فراجونار أن امتد به العمر بعد انقضاء عصره الفني، وغدت صوره بالية الطراز مع اقتراب الثورة الفرنسية وظهور طراز الكلاسيكية المحدثة، فحلّ به الفقر ومات عام 1806 في عهد بونابرت دون أن يكترث لموته أحد.